“أشعة ملونة” ديوان شعر لأحمد الصافي النجفي، لمهدي شاكر العبيدي

نـُشِرَتْ هذه المقالة في مجلة “العلوم” البيروتية المحتجبة اليوم، بالعدد التاسع من السنة الثانية عشرة، أيلول 1967Ù….

مقدِّمة :

نـُشِرَتْ هذه المقالة في مجلة ( العلوم ) البيروتية المحتجبة اليوم ، بالعدد التاسع من السنة الثانية عشرة ــ أيلول 1967م .

كانتْ لدينا نسخة من ديوان ( أشعة ملونة ) لشاعر العربية أحمد الصافي النجفي ، أيَّام كان مقيما ً بلبنان ، طـُبعَتْ كما أخال سنة 1939م ، استـُهـِلـَّتْ بمقدِّمة ضافية بعض الشيءِ حول وظيفة الفنون الشعريَّة ودورها في إصلاح المجتمعات الإنسانية ، كتبها الأستاذ المرحوم جعفر الخليلي ، تسبقها صورة فوتوغرافية يبين فيها الشاعر يتوسَّط في جلسته أصفياءه وعُشراءه : جعفر الخليلي نفسه ، والمربي اللبناني العامل وقتها في ثانوية النجف الأشرف إسكندر حريق ، ثمَّ الأستاذ الراحل عبود زلزلة مدير الثانوية المذكورة وقت ذاك أو قبله ببضع سنوات .

وأخيرا ً طبع الديوان مرَّة ثانية ، واستبعدَتْ منه الصورة والمقدِّمة ، مع أنَّ الصورة المستبعدَة مفيدة للقارئ إلى حدٍ ، من حيث الاستدلال على أنَّ الذاكرة قد تخون أفهام الرجال المشتغلينَ بالقضايا الأدبية والفكرية ، وتضللهم وتختلط عندهم المعلومات والحقائق والوقائع ، فمثلا ً : جاء في أحد أجزاء موسوعة الخليلي الشهيرة ( هكذا عرفتهم ) ، أنَّ الصلة انبتتْ أو فترَتْ أو انقطعَتْ كليا ً بينه وبين الأستاذ عبود زلزلة ، لأنـَّه استعان به كشاهد إثبات أمام المحكمة في قضيَّة تخصُّ مسألة النشر في صحيفته ( الهاتف ) ، فلمْ تعجبه شهادته أو أنـَّه خيَّب ظنـَّه منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي ، فكيف تلاقيا في جلسة الصافي عام 1939م ، والتقطتْ له ولجماعته صورة فوتوغرافية ؟ .

نص المقالة المنشورة عام 1967م :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لعلَّ الصافي النجفي أزهدُ أهل الشاعريَّة في التوفر على صياغة قصائد المناسبات العارضة التي يعنى بها عادة بتصوير ضروب الأحداث الملحة والخطوب الداهمة ، وذاك يعني بحال ضآلة نصيبه من الإسهام في ابتعاث العرام والنخوة في نفوس الآدميينَ حين تكون مصائرهم عرضة للعواقب الوخيمة ، إنْ لم يتجهَّزوا لمواجهتها بما ينبغي لهم من التحامي والمجانبة ؛ فشعر المناسبة إنْ لم يغتن ِ بالشمول الإنساني يفتقد الحاجة للانتفاع به في تربية النفوس وتهذيب السلائق وترهيف الأذواق بمجرَّد انطواء المناسبة التي استتبعته واقتضَتِ الاطلاع به ، ويظلُّ بعد هذا أشبه بالمدونات التاريخيَّة وأعلق بها منه إلى الشعر الخالد ، ومداه من حيازة الإعجاب والتهليل لا يتعدى ظرفه الماثل ويتجاوزه بمقدار ، ولا عبرة بعدُ بما يستحِثُّ عليه إنشاده ويبتعثه من التصفيق المدوِّي والثناء الحسن ، فهو إنْ استجاش شعورا ً واستنفر عاطفة في وقته ، فإلى أمدٍ محدودٍ بحدود المناسبة ومرهونا ً بها ، إذ هي منقضية منطوية إثر سابقاتٍ عليها من سانحات العصور .

وليس شرطا ً أنْ لا يعدَّ الشاعر ملتزما ً بالتعبير عن قضايا مجتمعه إنْ هو أغفل تصوير مشكلاته العامة والاضطلاع بتمثيل متطلباته ، فقد لا يكون ملما ً بدقائقها عارفا ً بمداخلها ومخارجها جملة ، وقد يكون من جهة ثانية على نصيبٍ من الإلمام والعرفان لكن لا للحدِّ المُسَاعف الملحف على معاناة تجربة الإحساس الفني الصادق الذي يلهم عادة بالتأدية السليمة والتعبير الموائم والقالب المناسب ؛ فالشاعر المعني بالتحذير من الانطباع بسجيَّة العقوق والنكران ، المتطلب الأفراد أنْ لا يتورَّطوا بهما وينزعوا إليهما في مسالك تصرُّفهم ومنازع سلوكهم ، شاعرٌ حميم بارٌ بالإنسانيَّة ، توَّاقٌ لأنْ تصفو حيوات الناس من الشوائب والأكدار ، ويظلُّ بعد هذا في مجمل تطلعاته وآرابه أبقى على مدى الأعصار والأدهار ، من آخرينَ استهواهم الهُتاف العاصف بمجامع قلوبهم ، المستعجل بهم للتوفر على صياغة الشعر ذي المعاني المكرَّرة المُعَادة والمضامين الجاهزة المملولة ، حتى لنكاد نلمح ثمَّة أكثر من شبه للمعنى والمبنى بين شاعر وشاعر ، فالصافي النجفي على هذا ليس من هؤلاء ، فهـو الشاعر الذي اعتزل حياة القوم ، ونأى بنفسه عن دنياهم غـير آسـفٍ ولا محزون ، وقد يكون أمَتَّ إلى شعراء الصعلكة في الجاهليَّة بكلِّ ما يعتلج في وجدانهم من الشعور الحاني الرقيق ، والحسِّ الإنسانيِّ المطبوع الممزوج بألوان شتى من السُّخط والنقمة والموجدة ، على ما يعتري عالمهم من الكلوحة والجهامة وكلِّ صور القبح والشناعة ، منه إلى شعراء ( الشعارات ) إذا جاز التعبير ، وإن عدَوا عليه وأربوا من جهة ثانية في القدرة والإمكان من مناجزة الغاشمينَ والظالمينَ ؛ غير أنـَّه تميَّز عنهم في شمول تجربته واستلهامه وحي الشاعريَّة من مشاهد ومواقف لا عهدَ لهم بالاستلهام منها والتوسُّل إليها أو لا تخطر لهم ببال أو وجدان ، وإنْ استوى وإيَّاهم على المدى الأرحب والغاية المتطلبة والغرض المنشود والهدف المرجو في ختام المسعَى ونهاية الجهد .

وذا لا يعني بحال أنَّ جُلَّ شعراء المناسبات هـم شعراء ( شعارات ) في عمومهم ، فمن بينهم القدوة الذي لا تستجلي في مجمل شعره شعارا ً أو سمة له ، إنـَّما يبلغ من سموق الشاعريَّة واقترابها من أوج التعبير الفني على حد أنْ ينشده الطرف وينخطف البصر ، والشعرُ بعدُ في عموم النظرة تعبير عن عاطفة قبل أنْ يكون كلاما ً موزونا ً مرهونا ً بقافيةٍ ، فكلُّ من الوزن والقافية هما في ختام التحصيل ( عرض ) لازم إذا جاز التعبير ، قبل أنْ يكونا شرطين ِ واجبين ِ يستدلُّ بهما عليه ؛ والشعر كذلك لا يستتبع بطبيعة الحال كد الخاطر وإجهاد الذهن لابتعاث العبارة المتينة والتركيب القوي الصلد بقصد الإيحاء والتدليل على خصب الشاعريَّة وجودة القريحة وسمو الإحساس ، فثمَّة شاعرٌ بسيط التعبير متوضِّح الأداء معهودٌ عنه حرارة الانفعال واعتلاجة الحس ، أميزُ بالأصالة وأدلُّ عليها من آخر يحوجك لاجتلاء معانيه وتفسير مضامينه استعانة بمعجم مفردات يعين في معرفة أصول الرواسم البالية المهجورة والرجوع به إلى مصادرها الأولى وما يتفرَّع عنها وما يشتقُّ منها من الألفاظ العديدة عدد الحصو وذرَّات الرمل والتراب .

فهل توافرَتْ هذه الخصائص والسمات المتوجبة للشاعريَّة المطبوعة القمينة بالتخليد وجدارة البقاء بالنسبة للصافي النجفي ، واقترب منها هو أيضا ً على بعض الآماد والحدود ؟ ، الجواب عن التساؤل ذا قد يكون بالإيجاب مع شيءٍ من التحفظ وأخذ النفس بالاحتراس من إطلاق التعميم والقول الفصل بالنسبة لمجمل شعره ، فالصافي النجفي إذ تفرَّد عن شعراء جيله بالموحيات والمعطيات ، ولم يجعل وكدَهُ دواما ً أنْ يتخيَّر منها ما يجدر بالشاعريَّة الخصبة أنْ تستقي منها وتنهل وتسترفد ، فقد استنفد مجهوده وطاقته في العَبِّ من موارد مشوبة لا تنضح بالرواء والصفاء ، واستغرق من بعد في التعبير عن موضوعات لا تمتاز إلا بالغثاثة والتفاهة قصد أنْ يوفي منها على معطى أصيل أو مضمون إنساني ، فجانبه التوفيق ، وتحاماه هو كذلك بمسافة أشواط ؛ ولفرط استهوانه لكفاياته وممكناته وتفريطه بهما ، استهدفه الناقدونَ بالذمِّ ، وألحفوا في إزجاء الاتهام له بالإسفاف والابتذال في كثير من معانيه ومبانيه ، وكشأن الناس دواما ً في إرسال الأحكام المتخرِّصة ، ألحَّ عليه البعض بالقدح والتجني ، على حين كلت أعينهم عن النظر في معطياته الشامخة الطيبة العطاء ، ومالت بهم موجدتهم وأوغارهم عن تقييم تلكم المعطيات على وجهٍ موسوم بالإنصاف والقبول .

بين يديَّ ديوان قديم لأحمد الصافي النجفي ، هو : ( أشعة ملونة ) ، يضمُّ بينَ دفتيه أشتانا ً ملونة من خوالج حسِّه ورعشات وجدانه وخطرات فكره ، وقد آثر صوغها بمقطعات تحتوي على البيتين ِ والأربعة ، وحتى البيت الواحد في الأقلِّ القليل ، وذا لا ينفي بطبيعته اقتداره من نظم المطولات ، أو ينبي بعجزه عن الإدلال بها ، يتجلى في هاته الأشتات المبعثرة ضـروب من سخريَّته وبـَرمِـه بالحياة والأحياء ، بمقدار ما يبين فيها شعوره بالفرح والحبور أو إحساسه بالوجد والسآمة ، ولا يظهر منها أنـَّه يرمِي إلى حمل الآخرين على التسليم له بوجهة نظر وتأمينه على نزعة فكرية على غرار ما يتوسَّل لهذه البُغية شعراء الخطابة ؛ فليس في الديوان الصغير ملمح على تصاديه حِيال الحوادث السياسيَّة التي تلمُّ بالمَوَاطِن وتعصف بها من آن ٍ لآن ، إنـَّما يُتاحُ للقارئ المتذوِّق أنْ يستكنه ما يتصارع في نفس هذا الشاعر الإنسان وينشب في قرارة وجدانه من لغوب مضطرم ولوعة مشبوبة ، هما أعود عليه بتجربة الشعور الفني وما تلهم به من المعاني الأصيلة ، التي إنْ تأتـَّتْ له معها أنْ يخلص بها إلى أداء حلو متناغم وتعبير فني زاخر بعمق التجربة نفسها ، تسنى له على هذا أنْ ينفذ إلى قرارات النفوس ، وتحلُّ منها هي كذلك في الأعماق البعيدة ، فيهيج اللغوب اللغوب ، وتبتعث اللوعة اللوعة ، ويقدح الزناد الزناد ، فيضطرُّ ذووها لاعتماد مواقف مناظرة مشاكلة لنفس موقفه المتعمَّد ، وتلك هي رسالة الشعر الخلاق ، شعر الأرض والناس والطبيعة لا الشعر المحلق في سماوات الخيال الهائم في مجالات المطلق ، حيث لا قصـدَ يُرتجَى ، ولا رسالة تحمل معنى التحقيق والتبليغ .

ليس في ديوان الصافي ثمَّة سياسة تحكي عن ضيقهِ بخدعها ــ أي السياسة ــ وألعابها البهلوانية ، إنـَّما فيه فلسفة ، وليس أوغل في الخطالة والضلال عن القصد والبعاد عن الجادة القويمة ، ممَّن يخال أنَّ الشاعر لا يحوجه التفقه بمبادِئ الفلسفة والإلمام بقواعدها الأوليَّة في أقلِّ تقدير باعتبارها محض أحاج ٍ مُستغلقة وألغاز غامضة أخلق أنْ يُترك الاضطلاع بتفسير رموزها وفكِّ طلاسمها وشرح دقائقها إلى ذويها أنفسهم ، إذ الشاعر محوجٌ إلى الفكر الثاقب والمعاني بنات الفكر ، والشعر لا يقتصر في استجماع خصائصه واحتفاله بها على الخيال والعاطفة ؛ غير أنـَّنا نحسب أنَّ جنوح الشاعر إلى تشرُّب مبادئ الفلسفة لا يستلزم منه بالمرَّة أنْ يجيء نتاجه الشعري ناضبا ً من الرهافيَّة خلوا ً من الرقة غير مشحون بحرارة الانفعال ، أو زاخر بالرعشة الأصيلة رعشة الوجدان المطبوع الذي لا يحكي عن جفاف الحسِّ أو بلادة الشعور أو محول العاطفة ، فليس أقمن من الشاعر بالتدبُّر في مصير الإنسان والتمعُّن في واقع حياته والتفكر في التماس الحلول الحاسمة للكثير من معضلاته ومشكلاته ، وما بالغلاظة والمُخاشنة يستقيم غرضٌ ويُرام قصـدٌ ويُسعَى لغايةٍ مرجُوَّة ؛ استهلَّ الشاعر النجفي ديوانه بهذه الأبيات :

عِندِي عُيُوبٌ بنفسِي سَوفَ أظهـِرُهَا لأنَّ إخــفـَـاءَهَا مـَـكــرٌ وَتـَدجـِيـلُ

وَالعَـيـْبُ يَـجـدُرُ أنْ يَـبـدُو لِـيَـعـرفـَهُ كـُـلُّ الأنام فـَلا يَـعـرُوهُ تـَضـلِـيـلُ

إنـِّي وإنْ كنتُ فِي جهل ٍ له صغرَتْ نفسِي فأجهَل مِني العَصرُ والجيلُ

بَـعُـوضَـة أنا فِـي الدنيا وَحِـيـنَ أرَى بَـعـضَ الـوَرَى فـَكأنـِّي بينهم فِيلُ

********

فالصافي على ما تقدَّم نزاع إلى إماطة الحجب الصفاق وهتك الأستار المحجبة لعديد من المواضع التي لا يملك المرء من رؤيتها إلا أنْ يزداد شعورا ً بالقرف والمرارة ، ولربَّما تسَّجرَتْ نفسه غيظا ً وتفجَّرَتْ بالأسى والأرم ، وهو لا ينوي إعفاء ذاته من انكشاف معايبها وانجلاء سوءاتها ، على ما يميِّزها من القبح والدمامة شأن آخرين ممَّن يلجُّون في إطلاق نعوت الذام والمعابة ، مدفوعينَ إليها بدافع من سخطٍ أو موجدة على الغير ، معفينَ ذواتهم في الوقت نفسه من المعائب والسوءات ، منزِّهينَ إيَّاها من الأخطاء والوقوع فيها مما يستوجب المؤاخذة والانتقاد .

وليس أمقتُ منه للدجل والمكر ، فحسبُه تعرية لنفسه من وطأة الشعور بالإثم لامتلائها بالعيوب ، أنْ يربو على كثيرين في استجماعه لخصائص من شأنها أنْ تـُعَفـِّي على المعائب وتضفي عليها حجبا ً ، بالمقابلة بين ذاته وذات آخرين هو أعفُّ منهم نقيبة وأقوم سليقة وأمتن خلقا ً .

وقد يبخسُ هذا القصيد حقه من التهليل والاحتفال أداؤه التقريري وصياغته المُتكلـِّفة بكشف الأسباب التي تسيغ بحال التستر على المعايب على غرار ما يعنى الفلاسفة والشُرَّاح بإيضاح المقدِّمات والتماس الأسباب واستخلاص النتائج ، ولأنَّ ليس كلُّ هذه الشيات ممَّا يروق بها الشعر أو يسوغ في الأفهام أو تغري بمعاودة إنشاده وتلاوته .

ويصدم الشاعر حال أهل الحسِّ والشعور إذ هم عائشون في رحاب مجتمعات لا ترعى إلا كلَّ ذي حس جامدٍ وشعور بليدٍ ، خلو من الكفايات والمواهب ، فلا يعود عليها بفائدة أو نفع ، بينا يعيش الشعراء الموهوبون عيشة هي أدنى إلى الكفاف والتقتير بمقدار :

أيَا شعراءَ الـدهـر هَـلْ فِـي كـُؤوسِكـُم مَن الدهرُ صابٌ مِثلَ مَا ذقتُ من كاسي ؟

فـَليْتَ لنا كونا ً سِوَى كـَون ِ ذا الوَرَى أيَحـيَـى أخـُـو حـِـس ٍ بـِكـَـون ٍ بـِلا حـِـسِّ

********

ولا يشينُ البيت الأخير الذي يحكي عن شعور متقدٍ وعاطفةٍ جائشةٍ وانفعال صادق وحُرقةٍ معتلجةٍ مشبوبة ، أنْ يتوسَّل بحرف ( الباء ) بديل حرف الجر ( في ) في معرض التأدية ، فالثانية أحرى بالتوسُّل وأخلق بالاقتفاء ، لولا أنْ يخلَّ ذلك بشرط التنغيم والجرس ، وذا لا يعني بحال أنَّ الشاعر لا يتعهَّد شعره بالصقل والتهذيب ؛ فلمْ يفته أنْ يأخذ نفسه في تدبُّر عواطف الناس من حوله حيال بعضهم البعض ، فقد استلفت نظره ما يشوب حياتهم من ضروب العداوات والمخاصمات التي قد تستجدُّ لأتفه الأسباب والدواعي .

وقد أزرَى الصافي النجفي بالمغرورينَ والحمقى ممَّن لا يكلفونَ ذواتهم عناء النظر إلى بواطنهم ، والوعي بحقيقة نفوسهم ، على غرار ما تطلبه وألزمَ الإنسان به الفيلسوف سقراط ، باعتبار أنَّ معرفة الإنسان نفسه قد تكون منطلقا ً مفضيا ً به بالتالي إلى معرفة الحقيقة الكليَّة أو الاقتراب منها ، لولا أنْ صرفتهم عنها مقتضيات المعاش والسعي في ابتغائه وما يترتب عليه عادة من حمل نفوسهم على مراكب خشنة هي والاستقامة والسوائيَّة على تمام المناقضة والاختلاف والتبايُن ؛ وما حال الشاعر الحسَّاس وسـط قـوم هـم أميز بجلافة الطباع وغلظة السلائق وغرابة الأطوار ، فالبديهي أنْ تشتدَّ عليه ظروفه بالقسوة والإيذاء ، وقد يكون ذا لو اقتصرَ على حرمانه من مؤونة العيش واشتداد ضغط الحاجة عليه ، ولمْ يتجاوزهما إلى مواجهة سُخر الماكرينَ وذوي الجهل والسفاهة ، والامتحان بتهكمهم المرِّ وزرايتهم الشائنة ، ولا مراء أنْ ينتابه شعور بالقسوة على الحياة والأحياء ، لكنـَّما يغطي عليها هذه الرقة في الحسِّ التي لا بُدَّ أنْ تترك مياسمها في صور تعبيره وضروب أدائه ، فيستدلُّ منها على أخذه نفسه بانتحال الأعذار لمَن يستهدفونه بالكيد ويلاحقونه بالزراية ، وكأنـَّه المرفِق الرحيم الموطن ذاته على تحمُّل الإنكار والعقوق والتجاوز عن المطاعن والمغامز :

عَجـِبْـتُ للنـَاس ِ يُـدْعَى كلهم بشرا ً وَذا مـَـلاكٌ وذا يَـبـدُو كـَشَـيـطـَـان ِ

هـــذا يَـرقُّ لِـذِي بُـؤس ٍ فـَيُطـعِـمُـهُ وذاك يَسلبُ خـُبزَ البَائِس ِ الـعَـانِـي

أحَـاولُ الـسَّـبَّ للإنسَان ِ مِن رجُـل ٍ مُؤْذٍ فـَيُـسكِـتـُنِـي إحـسَـانُ إنـسَـان ِ

حَتـَّى حَسِبْتُ وَفِعْلُ الناس ِ مُختـَلِفٌ إحـسَـانَ ذلِـكَ تـَكفِيـرا ً عَـن الثانِي

********

ولكن حينَ يتجاوز اليأس مقداره ــ كما يقولونَ ــ لا يتصوَّن الشاعر من تقريع الناس وصبِّ نقمته عليهم :

يَـا جَـاهـِـلِـيــنَ تـَغـُرُّهـُـم أثـوَابُهُـم فـَتـَخـَالـُهُـم وَهـُم العَـبـِيـدُ مُـلـُوكـَـا

أنـتـُم نـَظـَرْتـُم ظـَاهِـري فضحكتمُ وَنـَظـَرْتُ بَاطِنكم فعُدْتُ ضَحُوكـَا

فـَلنبْقَ نـَضْحَكُ لسْتُ قط بضَائِري أهـتـَمُّ إنْ يـَـكُ بَـالِـيـَا ً مـَـنـهُـوكـَـا

كـلا وَلـَسْـتـُم تـَحْـفِـلـُونَ بـِبَـاطـِـن ٍ إنْ كـَان بَاطِـنـُكـُم غـدا ً مَهـتـُوكـَا

****

مَهمَا سَخـَرتـُمْ بـِي فـَلسْتُ مُجيْبَكم أنـَـا لا أضـَـيِّـعُ فِـيْـكـُم الأوقـَاتـَا

يُعطِـيكـُم نـَظـَـري إلـَيـكـُم قِـيـمَـة ً كالشمس إذ تعطِي الجَمَاد حَيَاتا

يَـنـحَـط ُّ قـَدري كـُلـَّمَـا خَاطبتـُكـم وَيُـعِـيـدُ قـَـدرَا ً مِنـكـُم قـَـد فـَاتـَا

كالنهر ينقصُ حِينمَا يُعطِي الثرَى مَـاءً يُـحِـيـلُ بـِهِ الـجَـمَـادَ حَـيَاتا

****

أرَى حَشَرَاتٍ فِي طريقِي تعَرَّضَتْ تـُهَـاجـِمُ مِـنـِّي الـنـعـلَ باللدَغـَاتِ

أسِـيـرُ وَقـَلبي عَـن مَسِـيريَ مَانِعِي مَخافة أنْ أقضِي عَلى الحَشَـرَاتِ

عَـطـَفـْتُ عَلى الحُسَّـاد لـَمَّا رَأيتـُهُم يَمُوتـُونَ غـَيْـظا ً بانتظـَار وَفـَاتِي

يَـذوبُونَ عَـجـزَا ً مِـنهُـم عَن إذابَتِي وَيَـهْـوونَ ذاتا ً مِـن تـَرفـُّع ِ ذاتِي

فـَفِـي كـُلِّ يَـوم ٍ لِـي حَـيـَاة جَـدِيـدَة ٌ تــُجَــدِّدُ لِـلـحُــسَّــادِ ألـفَ مَـمَـاتِ

********

والصافي النجفي ساخرٌ ساخرٌ حتى من نفسه :

جَسَّ الطِبيبُ يَدِي فارتاع مِن مَرضِي وَقـَـالَ دَاؤُك يُـعـيـي طـِـبَّ إبـلِـيـس ِ

لـكِـنـَّنِي سَأدَاوي الـيَـومَ جـِسـمَـكَ مِـن أسقـَامِهِ ، قـُلـْتُ قبلا ً دَاو ِ لِي كِيسِي

قـَالـُوا جَـرَى الـتـَنـسِيـقُ قـُلـْتٌ : إليكمُ عـَنـِّي ، فـَلـَيـس يُـصِـيبُـنِي برشَّاش ِ

أنا أحـْـسُـــــدُ المُـتـَـقـَـاعِـدِيـنَ لأنـَّـنِـي مُـتـَـقـَـاعِـدٌ لـكِـن بـِدُوْن ِ مَـعـَـــاش ِ

****

إذا مَـا صَـديـقٌ خـَانَ عَهْـدَ ودَادِهِ فـَقـَد مَـاتَ وَالتـَأبـِينُ فِـيـِه يَلِـيقُ

هـَلـُمُّوا فـَعَـزُّونِي وَقولوا لكَ البقا فـَفِي كـُلِّ يوم لي يموتُ صديقُ

****

الـدَّاءُ حـَـرَّمَ لـَـذاتـِـي بـِأجـمَـعِـهَـا عَـلـَيَّ حَتـَّى كـَأنـِّي زَاهِدٌ وَرعُ

أرَى الحَياة لِمِثلِي كالمَمَاتِ غـَدَتْ إذا أنـَا بـِحَـيَـاتِـي لـَسْـتُ أنتـَفِعُ

وإنْ تساوتْ حياتي والممات معا ً فـَفِيمَ مِن فقدِهَا يَعرُونِيَ الفـَزَعُ

****

أحـَاط بـِيَ الإفـلاسُ مِـن كـُلِّ جَـانبٍ فأصبَحَ ملءَ العين ِ والسمع والقلبِ

وَقـَد هـَان إفـلاسِي مِن الفلس ِ وَحدَهُ ولكنـَّنِي أفلسْتُ حَـتـَّى مِن الصَّحـبِ

********

وقد تكونُ هذه السخرية من قبيل أخذ الحياة من جانبها اللين السهل وهي أعون للشاعر على تبديد سحائب اليأس والقنوط التي تظلُّ حياته ، لكنـَّها على أيَّة حال أعجز من إمكان اجتثاث الشعور بالاختناق والإحساس بالضياع والاغتراب من غور الوجدان وقرارة النفس .

وقد تكون في النماذج الشعرية التي استدللنا بها ما يعين على استخلاص فكرة مجملة عن أشعة الصافي النجفي الملونة يمكن بها إفراده عن أقرانه من ذوي الشاعريَّة ، فالرجلُ في أشعته الملونة هذه شاعرٌ مبتكر مُدِلٌّ بالبديع البَدع والطريف المُحبَّب ، متفرِّد بخطراته وأشواقه وأحلامه ، مضيفٌ إلى مأثوراتنا الشعريَّة لونا ً جديدا ً من الشعر الساخر الظريف الذي لا يدلُّ به على نفس راتعة في أطايب الحياة وبلهنية العيش ، مستمتعة بالفراغ حتى ما تجد مندوحة عن ملئه إلا بالسخرية ، بلْ هي نفسٌ أطبقتْ عليها كلُّ المكاره والصروف ، وأثقلتْ عليها بالشجن الحارق والألم الممضِّ ، فترفعَتْ عن الشكاة وأمسكتْ عن التماس التعزية والتهوين بالبوح بما يعتلج في أعماقها من الأشواق والمواجد إلى الأقران والأنداد ، فمالتْ إلى اعتماد تلك السخرية جمَاما ً لها من الأتعاب ، والتمسَتْ منها تعزية مخففة وتهوينا ً ملائما ً للجراح .

Related posts

Leave a Comment